هل فشل تنظيم كأس أمم إفريقيا في المغرب جماهيريًا؟ قراءة موضوعية بعيدًا عن الأحكام السطحية
منذ انطلاق نهائيات كأس أمم إفريقيا بالمغرب، تصاعدت بعض الأصوات المنتقدة التي ربطت بين ضعف الحضور الجماهيري في عدد من المباريات وما اعتبرته “فشلًا تنظيميًا” على مستوى الجمهور. غير أن هذا الطرح، في نظر العديد من المتابعين والمهتمين بالشأن الكروي الإفريقي، يفتقد للموضوعية ويغفل معطيات تاريخية وجغرافية وزمنية لا يمكن تجاوزها عند تقييم أي نسخة من البطولة.
أولًا: الحضور الجماهيري… هل كان يومًا معيارًا ثابتًا في كأس إفريقيا؟
العودة إلى أرشيف كأس أمم إفريقيا تكشف حقيقة واضحة: الحضور الجماهيري لم يكن يومًا متوازنًا في جميع المباريات ولا في كل النسخ. تاريخ البطولة، منذ انطلاقتها، يثبت أن الامتلاء الجماهيري كان غالبًا مرتبطًا بمباريات المنتخب المستضيف أو المنتخبات ذات الشعبية الكبيرة، بينما ظلت مباريات أخرى تُجرى أمام مدرجات شبه فارغة.
بل إن نسخًا أُقيمت في دول إفريقية ذات كثافة سكانية عالية وبنية كروية راسخة، عرفت مشاهد مماثلة، دون أن يُصنّف تنظيمها بالفاشل أو الضعيف. وعليه، فإن مقارنة كأس إفريقيا بكأس أوروبا من حيث الحضور الجماهيري تُعد مقارنة غير منصفة، تتجاهل الفوارق الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية بين القارتين.
ثانيًا: الجغرافيا الإفريقية… عامل حاسم لا يمكن تجاهله
القارة الإفريقية شاسعة، والمسافات بين دولها طويلة ومعقدة، ولا تتوفر دائمًا على شبكات نقل جوي منخفضة التكلفة أو روابط مباشرة كما هو الحال في أوروبا. انتقال مشجع من وسط أو جنوب القارة إلى شمالها يتطلب ساعات طويلة وتكاليف مرتفعة، ما يجعل فكرة التنقل الجماهيري الواسع أمرًا صعب التحقيق.
وعلى عكس القارة الأوروبية، حيث يمكن للمشجع الانتقال بين دولتين في بضع ساعات بالقطار أو السيارة وبتكلفة معقولة، فإن الواقع الإفريقي يفرض قيودًا موضوعية لا علاقة لها بجودة التنظيم أو كفاءة البلد المستضيف.
ثالثًا: زمن التكنولوجيا والتشديدات الأمنية… عالم مختلف عن الماضي
من النقاط التي يتجاهلها المنتقدون أن العالم اليوم لم يعد كما كان قبل عشرين أو ثلاثين سنة. السفر أصبح أكثر تعقيدًا، والدول، بما فيها الإفريقية، باتت تفرض إجراءات صارمة تتعلق بالتأشيرات، والتحقق الأمني، والبيانات الشخصية، في ظل عالم تسوده الهواجس الأمنية والرقمية.
المشجع اليوم مطالب بتقديم وثائق متعددة، وحجوزات، وضمانات، ومعلومات دقيقة قبل دخول أي بلد، وهو ما يُضعف تلقائيًا فكرة “الهجرة الجماهيرية” التي كانت سائدة في حقب سابقة. وبالتالي، فإن قياس الحضور الجماهيري بمعايير الماضي قراءة خارج السياق الزمني.
رابعًا: المنتخب المغربي والجمهور المحلي… الاستثناء الطبيعي
عند الحديث عن مباريات المنتخب المغربي، تُظهر الصور والأرقام حضورًا جماهيريًا قويًا ومكثفًا، يعكس تفاعل الشارع المغربي مع البطولة واعتزازه باستضافتها. وهو أمر طبيعي في كل البطولات الكبرى، حيث يكون جمهور البلد المنظم هو العمود الفقري للحضور داخل الملاعب.
أما المباريات التي لا يكون فيها المنتخب المحلي طرفًا، فتبقى خاضعة لعوامل متعددة، من بينها توقيت المباريات، شهرة المنتخبات، ورهانات التأهل، وليس بالضرورة لجودة التنظيم.
خامسًا: التنظيم بين الواقع والانطباعات المسبقة
على مستوى البنية التحتية، الملاعب، النقل، الإقامة، والتجهيزات التقنية، حظيت النسخة المغربية بإشادة واسعة من وفود المنتخبات، ومسؤولي الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، ووسائل إعلام دولية، وهو ما يؤكد أن التنظيم لم يفشل، بل انسجم مع المعايير الحديثة للتظاهرات الرياضية الكبرى.
اختزال نجاح أو فشل بطولة قارية في عدد الجماهير داخل بعض المباريات فقط، يُعد تبسيطًا مخلًا لا يخدم النقاش الرياضي ولا يعكس الحقيقة كاملة.
خلاصة: الحكم العادل يحتاج إلى ذاكرة لا إلى انطباع
قبل إطلاق الأحكام، من الضروري العودة إلى كل النسخ السابقة لكأس أمم إفريقيا، ومقارنتها بموضوعية، مع مراعاة السياق الجغرافي والزمني واللوجستي. المغرب لم يخترع مشكلة الحضور الجماهيري، ولم يكن استثناءً في هذا الجانب، بل تعامل مع واقع إفريقي معروف، في زمن عالمي مختلف.
إن النقد البناء مرحب به، لكن الإنصاف يفرض قراءة شاملة لا انتقائية. وكأس أمم إفريقيا في المغرب، بكل المقاييس، أكدت مرة أخرى أن التنظيم المحكم لا يُقاس بعدد الكراسي الممتلئة فقط، بل بجودة التجربة ككل، داخل وخارج الملعب.
